سورة طه - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (طه)


        


{جنات عَدْنٍ} بدلٌ من الدرجات العلى أو بيان، وقد مر أنّ عدْناً علمٌ لمعنى الإقامة أو لأرض الجنة فقوله تعالى: {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} حال من الجنات وقوله تعالى {خالدين فِيهَا} حالٌ من الضمير في لهم والعاملُ معنى الاستقرارِ أو الإشارةِ {وَذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما أتيح لهم من الفوز بما ذُكر من الدرجات العُلى، ومعنى البُعد لما مر من التفخيم {جَزَاء مَن تزكى} أي تطهر من دنس الكفرِ والمعاصي بما ذكر من الإيمان والأعمالِ الصالحة، وهذا تحقيقٌ لكون ثوابِه تعالى أبقى، وتقديمُ ذكرِ حال المجرمِ للمسارعة إلي بيان أشدّية عذابِه ودوامِه رداً على ما ادعاه فرعونُ بقوله: {أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى} هذا وقد قيل: هذه الآياتُ الثلاثُ ابتداءُ كلامٍ من الله عز وجل، قالوا: ليس في القرآن أن فرعونَ فعل بأولئك المؤمنين ما أوعدهم به ولم يثبُت في الأخبار.
{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إلى موسى} حكايةٌ إجماليةٌ لما انتهى إليه أمرُ فرعونَ وقومِه، وقد طُويَ في البين ذِكرُ ما جرى عليهم من الآيات المفصّلات الظاهرةِ على يد موسى عليه الصلاة والسلام بعد ما غلب السحرةَ في نحو من عشرين سنةً حسبما فُصّل في سورة الأعراف، وتصديرُها بالقسم لإبراز كمالِ العناية بمضمونها وأنْ في قوله: {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى} إما مفسرةُ لأن الوحيَ فيه معنى القول أو مصدريةٌ حذف عنها الجارُّ، والتعبيرُ عنهم بعنوان كونِهم عباداً له تعالى لإظهار المرحمةِ والاعتناءِ بأمرهم والتنبيهِ على غاية قُبح صنيعِ فرعونَ بهم حيث استعبدهم وهم عبادُه عز وجل وفعل بهم من فنون الظلم ما فعل، أي وبالله لقد أوحينا إليه عليه الصلاة والسلام أنْ أسرِ بعبادي الذين أرسلتُك لإنقاذهم من مَلَكة فرعونَ، أي سِرْ بهم من مصرَ ليلاً {فاضرب لَهُمْ} أي فاجعل أو فاتخذْ لهم {طَرِيقاً فِى البحر يَبَساً} أي يابساً على أنه مصدرٌ وصف به الفاعلُ مبالغةً، وقرئ: {يَبْساً} وهو إما مخففٌ منه أو وصفٌ كصعب، أو جمعُ يابس كصحْب، وُصف الواحد للمبالغة أو لتعدّده حسبَ تعدّدِ الأسباط {لاَّ تَخَافُ دَرَكاً} حالٌ من المأمور أي آمِناً من أن يُدركَكم العدوُّ أو صفةٌ أخرى لطريقاً والعائدُ محذوفٌ، وقرئ: {لا تخَفْ} جواباً للأمر {وَلاَ تخشى} عطف على لا تخاف داخلٌ في حكمه أي ولا تخشى الغرقَ، وعلى قراءة الجزم استئنافٌ أي وأنت لا تخشى أو عطفٌ عليه والألفُ للإطلاق كما في قوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} وتقديمُ الخوفِ المذكورِ للمسارعة إلى إزاحة ما كانوا عليه من الخوف العظيمِ حيث قالوا: إنا لمدرَكون.


{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} أي تبِعهم ومعه جنودُه حتى لحِقوهم، يقال: أتْبعتُهم أي تبِعتُهم وذلك إذا كانوا سبقوك فلحِقتهم، ويؤيده أنه قرئ: {فاتّبعهم} من الافتعال، وقيل: المعنى أتْبعهم فرعونُ نفسَه فحذف المفعولُ الثاني، وقيل: الباءُ زائدةٌ والمعنى فأتبعهم فرعونُ جنودَه أي ساقهم خلفهم، وأياً ما كان فالفاءُ فصيحةٌ مُعرِبة عن مُضمر قد طُوي ذكرُه ثقةً بغاية ظهورِه وإيذاناً بكمال مسارعةِ موسى عليه الصلاة والسلام إلى الامتثال بالأمر، أي ففعل ما أُمر به من الإسراء بهم وضرْب الطريقِ وسلوكِه فأتبعهم فرعونُ وجنودُه براً وبحراً. روي أن موسى عليه الصلاة والسلام خرج بهم أولَ الليل وكانوا ستَّمائةٍ وسبعين ألفاً، فأخبر فرعونُ بذلك فاتّبعهم بعساكره وكانت مقدمتُه سبعَمائة ألفٍ فقف أثرهم فلحِقهم بحيث تراءى الجمعان فعند ذلك ضرب عليه الصلاة والسلام بعصاه البحرَ فانفلق على اثني عشر فرِقاً كلُّ فِرقٍ كالطود الغظيم، فعبَر موسى عليه الصلاة والسلام بمن معه من الأسباط سالمين وتبِعهم فرعونُ بجنوده {فَغَشِيَهُمْ مّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} أي علاهم منه وغمرَهم ما غمرهم من الأمر الهائلِ الذي لا يقادَر قدرُه ولا يُبلغ كُنهُه، وقيل: غشِيهم ما سُمِعَت قِصتُه وليس بذاك، فإن مدارَ التهويلِ والتفخيمِ خروجُه عن حدود الفهم والوصفِ لا سماعُ قصتِه، وقرئ: {فغشّاهم} من اليم ما غشاهم أي غطاهم ما غطاهم، والفاعلُ هو الله عز وعلا أو ما غشاهم، وقيل: فرعونُ لأنه الذي ورّطهم للهلكة ويأباه الإظهارُ في قوله تعالى: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ} أي سلك مسلَكاً أداهم إلى الخَيبة والخُسران في الدين والدنيا معاً حيث ماتوا على الكفر بالعذاب الهائلِ الدنيويّ المتصل بالعذاب الخالدِ الأخروي، وقوله تعالى: {وَمَا هدى} أي ما أرشدهم قطُّ إلى طريق موصلٍ إلى مطلب من المطالب الدينية والدنيوية، تقريرٌ لإضلاله وتأكيدٌ له إذ رُبّ مضِلٍ قد يُرشد من يُضِلّه إلى بعض مطالبِه، وفيه نوعُ تهكمٍ به في قوله: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد} فإن نفيَ الهدايةِ عن شخص مُشعرٌ بكونه ممن يُتصور منه الهدايةَ في الجملة وذلك إنما يُتصور في حقه بطريق التهكم، وحملُ الإضلالِ والهداية على ما يختص بالديني منهما يأباه مقامُ بيانِ سَوْقه بجنوده إلى مساق الهلاكِ الدنيوي، وجعلُهما عبارةً عن الإضلال في البحر والإنجاءِ منه مما لا يقبله العقل السليم.
{يابنى إسراءيل} حكايةٌ لما خاطبهم الله تعالى بعد إغراقِ فرعونَ وقومِه وإنجائِهم منهم لكن لا عَقيب ذلك بل بعد ما أفاض عليهم من فنون النعمِ الدينية والدنيوية ما أفاض، وقيل: هو إنشاءُ خطابٍ للذين كانوا منهم في عهد النبي عليه الصلاة والسلام على معنى أنه تعالى قد منّ عليهم بما فعل بآبائهم أصالة وبهم تبَعاً، ويردُّه ما سيأتي من قوله تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ} الآية، ضرورةَ استحالةِ حملِه على الإنشاء، فالوجهُ هو الحكايةُ بتقدير قلنا عطفاً على أوحينا، أي وقلنا: يا بني إسرائيل {قَدْ أنجيناكم مّنْ عَدُوّكُمْ} فرعونَ وقومِه حيث كانوا يبغونكم الغوائلَ ويسومونكم سوءَ العذاب يذبّحون أبناءَكم ويستحيون نساءكم، وقرئ: {نجيناكم} و{نجيتُكم} {وواعدناكم جَانِبَ الطور الأيمن} بالنصب على أنه صفةٌ للمضاف، وقرئ بالجرّ للجوار أي واعدناكم بواسطة نبيِّكم إتيانَ جانبِه الأيمنِ نظراً إلى السالك من مصرَ إلى الشام، أي إتيانَ موسى عليه الصلاة والسلام للمناجاة وإنزالَ التوراة عليه، ونُسبت المواعيدُ إليهم مع كونها لموسى عليه الصلاة والسلام نظراً إلى ملابستها إياهم وسِراية منفعتِها إليهم وإيفاءً لمقام الامتنان حقَّه كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم} حيث نسَب الخلقَ والتصويرَ إلى المخاطبين مع أن المخلوقَ المصوّر بالذات هو آدمُ عليه الصلاة والسلام، وقرئ: {واعدتُكم} و{وعدناكم} {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى} أي الترنجبين والسمان حيث كان ينزل عليهم المنُّ وهو في التيه مثلَ الثلج من الفجر إلى الطلوع لكل إنسان صاعٌ، ويبعث الجنوبُ عليهم السمان فيذبح الرجل منه ما يكفيه كما مر مراراً.


{كُلُواْ} جملةٌ مستأنفة مَسوقة لبيان إباحة ما ذكر لهم وإتماماً للنعمة عليهم {مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم} أي من لذائذه أو من حلالاته، وقرئ: {رزقكم}، وفي البدء بنعمة الإنجاءِ ثم بالنعمة الدينية ثم بالنعمة الدنيوية من حسن النظمِ ولطفِ الترتيب ما لا يخفى {وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ} أي فيما رزقناكم بالإخلال بشكره والتعدّي لما حُدّ لكم فيه كالسرَف والبطَر والمنع من المستحِق {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى} جواب للنهي أي فتلزمَكم عقوبتي وتجبَ لكم، من حلّ الدَّينُ إذا وجب أداؤه {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هوى} أي تردّى وهلك، وقيل: وقع في الهاوية، وقرئ: {فيحُلَّ} بضم الحاء من حل يحُل إذا نزل.
{وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ} من الشرك والمعاصي التي من جملتها الطغيانُ فيما ذكر {وَءَامَنَ} بما يجب الإيمان به {وَعَمِلَ صالحا} أي عملاً صالحاً مستقيماً عند الشرع والعقلِ، وفيه ترغيبٌ لمن وقع منه الطغيانُ فيما ذكر وحثٌّ على التوبة والإيمان وقوله تعالى: {ثُمَّ اهتدى} أي استقام على الهدى إشارةٌ إلى أن من لم يستمرَّ عليه بمعزل من الغفران وثم للتراخي الرتبي.
{وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى} حكايةٌ لما جرى بينه تعالى وبين موسى عليه الصلاة والسلام من الكلام عند ابتداءِ موافاته الميقاتَ بموجب المواعدةِ المذكورة، أي قلنا له: أيُّ شيءٍ أعجلك منفرداً عن قومك؟ وهذا كما ترى سؤالٌ عن سبب تقدمه على النقباء مَسوقٌ لإنكار انفرادِه عنهم لما في ذلك بحسب الظاهر من مخايل إغفالهم وعدمِ الاعتداد بهم مع كونه مأموراً باستصحابهم وإحضارِهم معه، لا لإنكاره نفسَ العجلة الصادرةِ عنه عليه الصلاة والسلام لكونها نقيصةً منافية للحزم اللائقِ بأولي العزم، ولذلك أجاب عليه الصلاة والسلام بنفي الانفرادِ المنافي للاستصحاب والمعية حيث {قَالَ هُمْ أُوْلاء على أَثَرِى} يعني إنهم معي وإنما سبقتهم بخُطاً يسيرة ظننتُ أنها لا تُخِل بالمعية ولا تقدح في الاستصحاب، فإن ذلك مما لا يعتد به فيما بين الرفقةِ أصلاً، وبعد ما ذكرَ عليه الصلاة والسلام أن تقدّمَه ذلك ليس لأمر منكر ذكَر أنه لأمر مَرضيّ حيث قال: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لترضى} عنّي بمسارعتي إلى الامتثال بأمرك واعتنائي بالوفاء بعهدك، وزيادةُ ربِّ لمزيد الضراعةِ والابتهال رغبةً في قَبول العذر.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12